سارية مائلة تحمل علما مازال يرمز لشئ رغم أنه صار أشبه بخرقة بالية , يجلس تحته ملثمان في خندق لا يتسع للحياة , خندق يشبه قبراً وأسوأ , القبر أفضل لأنه يوفر نهاية هادئة, الحفرة ممتلئة بلفافات السجائر المستهلكة ,والجرائد التي صارت تستعمل لأغراض أخرى, الشعارات التي وهنت من المدة الطويلة التي علقت فيها, وقربتا ماء تختفيان ككنز, لن تجد في الخندق حشرة لأنها نزحت بانتظار أن يهجر المقاتلون الأماكن التي استوطنتها أجيالا طويلة .
في الأعلى..سماء ملبدة بالغيوم والقصف وزحام الأرواح التي تصعد إلى السماء , الرائحة تبدو غريبة كمزج بين الياسمين والموت , على بعد شارع من الخندق طفلين يتسمان على شرفة منزلهما المهدمة في ذات الشارع طفلة تجمع صديقاتها لتلعب دور المعلمة وتشرح لهم عن لعنة الحرب , الحرب تجعل الأطفال يسألون لماذا يالله؟
الرجلين في هذا الخندق اللعين بعرقهما وتنهداتهما التي تحمل ضيق رجل لم يرى امرأة حقيقية لعامين كافية أن تريق ماء الشهوة كطوفان نوح, ينظرا بلا اهتمام , أصوات القنابل البعيدة لا تعني شيئاً سوى معركة هامشية معتادة , غير مهتمين بالمراقبة , أو متعبين قليلا , أو أنهما يظنان أن القتال سيتوقف لعدة أيام بعد أسبوع دامٍ من القتال , يتوقف الجنود عندما يتعبون!, وليتهم يتعبون إلى الأبد , وليت هذا العالم الذي أدمن الحرب -كمراهق أدمن عادته في الاستمناء- يكبر. هنا رغم أن الموت أقرب الأشياء واحتمال أن تكون حياً في الغد أقرب للخسارة , سيفكر أحدهما في امرأة يتزوجها وتنجب له , سيفكر في أحلامه الطويلة , وفي هذه الدولة التي لن يجوع فيها أحد والوطن الذي سيرجع أبناءه من المنافي. يسأل الآخر صاحبه ( لم يريا وجه بعضهما حسب الأوامر .. حتى الوجوه تأخذها الحرب ) :
– وين سارح ؟
– بَحْلَم ..
– تحلم !؟ بدّك تموت بهاون ولا بلغم ؟!
– يلعن عرضك مافي غير هالحلم !!!
– اييييه ( تنهيدة تعتصر الجحيم ) تعرف هيدا المكان شو ؟
– لا .. شو؟؟
– حديقة عشاق !
– شو عرفك؟
– كنت شوف مرام هون .
أدار وجهه إلى الجهة الأخرى و أهرق دمعتين , هادئا اليوم على غير عادته , وهو أغرب المقاتلين هنا , لا ينام إلا كل ثلاثة أيام ,لا يندمج في ثرثرة المقاتلين التي لا تتحدث إلا عن السياسة والخيانات والقتلى , يقاتل دون أن يصرخ بالشعارات التي يصرخ الكل بها وحين يشتد القتال يردد أغنية فيروز :شايف البحر شو كبير..كبر البحر بحبك .. كعادته كل جمعة سيتجه إلى قبرها , ولأن الجمعة لم تعد جمعة هنا , سيصيبك الحنين إلى الاستحمام ورائحة الأمهات , لن يرفع الآذان , الله أوقد النار طويلاً في السماء كي تصبح جحيماً , والشيطان اكتفى بأن أوقد الحرب في الأرض , لا آذان و لا زهاد يسيرون إلى الجوامع مبكراً , لا أجراس كنائس , لا رهبان ولا سلام سيأتي بهي الشهر المحرم , متوجهٌ إلى قبرها الذي يحفظ طريقه بين مئات القبور فنصف القرية هنا صارت مقبرة , يجلس عند قبرها ليضع رصاصة , الرصاص صار رخيصاً لأن الموت بلا ثمن وما عاد أحد يهتم بقطف الورد , عدد الرصاص فوق قبرها 20 رصاصة , 20 أسبوعا منذ عادت إلى الأرض , لم يكن قد جن بعد .. صار عاقلاً أكثر واكتشف أن الحب فقط لا يكفي ..