ككل مدن البحر , احتضنت جدة الكرنتينا التي كانت مكانا للكشف على القادمين من السفن وحجز المرضى منهم , يبقى فيها المجذومين والمجانين من لم تشملهم رحمة السماء ولا عفو الأرض, تبدو كتلك الأماكن التي يحاول العالم نسيانها.. تطورت المدن وتخلت عن الكرنتينا كحجز للقادمين, لكنها بقيت كغرفة خلفية للعالم ..مظلمة وشحيحة و أكثر حنوا من شوارع المومسات .. حيث يصبح الفقر رغيف والثراء مجرد رغيفان .. هناك يخلع العالم رداءه المزيف .. يتخلى عن لغته المنمقة .. الكلام في الكرنتينا سوقي أكثر مما ينبغي لكنه صادق جداً .. وكرنتينة جدة صارت وجها غارقا في إفريقيا , مقاهي جبنة تتوزع كثقوب في الذاكرة , بائعات يفترشن الأرصفة الضيقة ويبعن الجورو والحناء وحلوى نزع الشعر وخلطات الشفاء السرية , المشهد اليومي للرجال والنساء في السوق لا ينتمي لزمن الصحوة .. بيوت مازالت تكتفي بإسدال الستائر على بابها , أزقة مفروشة بالقماش , مازال بإمكانك أن تلمح دواخل البيوت من النوافذ المشرعة على آخرها .. تحية العابرين في الكرنتينا أطول من كل التحيات المعتادة , هنا لا يكتفون برفع اليد بل يتصافحون بشدة ويرددون: السلام عليكم من القلب, تطول التحية لتصبح سؤالا عن الأقارب والأهل والأحوال والحارة , أحياناً يولي المتصافحان ظهرهما لبعض وهما ما يزالان يرددان كلمات الترحاب الجميلة , السيارات تنتمي لما قبل التسعينات , كل الأشياء تبدو قديمة مغبرة , تبدو الكرنتينا كمكان تقيأه البحرر ولم ترفضه جدة التي تنسى كل تلك الوجوه القاسية التي ألبسوها , لا يمكن لجدة إلا أن تحتضن هؤلاء .. لا يمكن لجدة أن تخذل من إرتمى بين ذراعيها .. هذه المدينة لم تخلق للخذلان ..
الوجوه هنا هي وجوه الغريبين الطيبين .. المهملين .. وجوه من لا وجوه لهم .. الآتين في الساعة العشواء .. الذين أنتجهم هذا العالم وطحنهم ثم تبرأ منهم وكأنهم قذارة , هؤلاء الذين لا يلتفت لهم أحد و لا يحسبون في دفاتر التعداد السكاني , هؤلاء الذين يلتفت إليهم كاتب الشرطة حين لا يجد أحداً يلبسه قضاياه المعلقة ويقول هؤلاء لن يفقدهم أحد ألبسوهم القضية , وجوه أبناء السبيل المدفوعين بالأبواب , النازحون من الشمس والعائمون في موتهم المنتظر .. وجوه لا تنتمي إلا لخارطة الرحيل , هؤلاء الذين لم يتورطوا بعد في عالم المدن الزائفة , الذين يستيقظون ليبحثوا عن ثمن العشاء , وينامون وهم يرددون أغنيات عن كذبة الحب و العدالة , وجوه السارقين الشرفاء الذين لا يسرقون إلا بقدر ما يسد رمقهم ليذكروا العالم أنهم ليسوا سيئين إلا بمثل سوءه , وجوه العجائز الذين تغلق المدن أبوابها عليهم في الصباح ثم يجمعون قذارتها في الليل .. هؤلاء الذين لم يمنحهم القدر إلا شره . .من جاءوا إلى جدة لا قدراً بل كرمية نرد خاسرة.
النقاش الوجودي الدائب عن الأوطان البعيدة , عم حسن ( الاريتري ) وعم زكريا ( الإثيوبي ) يجلسان حول طاولة عليها خارطة باللون الأخضر لإفريقيا و يطلقان الدخان بغضب كأنهم في مباراة للسجائر ولا يضحكان إلا حين يمر عليهم كانو ( كانو جاء بقارب تهريب من الصومال ولأن قانون قوارب الموت في حالة هيجان البحر هو أن يرموا بالأكبر حجماً ظل كانو يبكي طول الرحلة خوفا من أن يهيج البحر ويصبح قرباناً ) . مازال آدم يتفنن في زركشة ثيابه بالألوان الزاهية كأنه ينتقم من أحكام الإعدام التي صدرت بحقه في تشاد بتهمة لا يعرفها بالتحديد إلى الآن , حمدو بائع العَرق الفخور جداً بمهنته وهو يردد : الناس كلها تشتغل في حاجات تعكر المزاج أنا أبيع أشياء تعدل المزاج.. مازالت حليمة تمر وهي تسرد خطتها في الرجوع إلى الصومال – وطنها – بقوارب الموت ومن هناك ستدبر طريقة للذهاب إلى مصر ثم تركيا وستهرب بعدها إلى لندن حتى صرنا نسميها حليمة اللندنية لكنها تغضب وتقول : أني لو لفيت الدنيا أبقى حليمة الجداوية ..