رسائل جدة

10- ماكنا كدا .. حتى لاتموت الذاكرة

البلد التي أعرفها غير البلد التي الآن .. غير البلد التي تصور كجزء من الذاكرة القديمة ..

سأبدو مثل الشّياب الذين لم يستسيغوا العالم الجديد .. ظنوا المذياع سحر والبواريد شياطين .. لي أن أبدو كذلك ..

لي أيضاً أن أبدو مثل أهل الرويس , إن الحارة تعني لهم الوطن وتعني الذاكرة أهم ما يورثونه لأطفالهم .. أين سيمكنهم أن يقيموا احتفالات المزمار حين ينتقلوا من الرويس وكيف سيلقنون الصبية تقاليد العناد الحاد .. الرويس بمبانيه المهدمة والمتعرجة أجمل في العيون من أن يكون أبراجاً متعجرفة لا يتقن سكانها فن إضاعة الوقت في النميمة والحش ..

لا يفهم أهل الرويس مثلي المعاني التي يقولها القادمين من بعيد عن التطوير والتمدن والهرج المبروز .. ستقولون أشياء كثيرة ولكم أن تبرروا.. لكن لن تفهموا .. ما أسوء أن تشاهد ذاكرتك تعرض كمتحف .. سأعبر بشئ أدق أنا هناك أحس بنفسي كهندي أحمر وضعوه في متحف حتى لا ينقرض .. سيشاهده البيض ويدرسوه ويعللون فعلهم بأشياء كثيرة لكن الهندي الأحمر سيكون متألماً جداً .. مثلي

بائعي المحلات الذين قضوا أعمارهم هنا صاروا هامشاً .. وصارت وجوههم لا تنتمي للزحام رغم أن وجوههم هي البلد الحقيقية .. والافارقة الذين تتابعوا لثلاثة أجيال هنا صاروا خارج النص تماماً ..

البلد التي أعرفها .. ليست التي تبدو في المهرجان الآن .. أنا لا أستطيع أن أذهب هناك وأمشي في الزحام مثل السائحين الذين يغزونا من أحياء الشمال.. البلد التي أعرفها ليست مكتظة بالوجوه الناعمة والابتسامات المرصعة بالأسنان البيضاء ..

يصيبني هاجس غريب حين أمر وأشاهد كل أولئك الناس .. يتسارع نبضي مثل رجفته حين يهوى .. أو حين تصيبه الخيبة .. ويقول قلبي لي أنت من هنا لكن هذا المكان لم يعد يشبهك .. ليست فوبيا الزحام .. إنه وجع العيش في تفاصيل الذاكرة .. هاهم جاءوا ليأخذوا ذكرياتي ويحولوها إلى متجر .. ها هم يجلبوا قيم العملة إلى المكان الذي كان طاهراً .. إلى المكان الذي كنت تهرب إليه وتبكي في أزقته المظلمة وتبادلك القطط رغيفها وغضبها ..

أنا حزين جداً .. وحزين لأن لا أحد سيفهم ..

ولدت هناك في البلد التي لا يعرفها إلا من ولد فيها .. بعد انتهاء درس الاربعين النووية في صباح الجمعة قبل الثامنة كنت أنطلق مع عمر وناصر إلى الأزقة .. نجري ونشاهد الشمس تحشر أضوائها حتى تصل إلى الأماكن الضيقة .. بعض الشياب كانوا ينظفون الأزقة .. وبعضهم كان يوزع زمزم .. الحجات كنّ متشحات بالزينة رغم عملهم اليومي في النفايات .. وحدها مساجد البلد كانت تفتح من الفجر .. البلد التي أعرفها ترتسم على وجوه أهلها شقائات كثيرة ..

لا أحد يعرف القصص التي أعرفها .. سير المتاجر وأصحابها .. حكايات الحب التي بألوان الطيف لا أحد سيعرفها .. ولن أرويها حتى لا تموت ذاكرتي ..

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s