المقالات

فلسطين وفعل المقاومة الخلاق

كانت القضية الفلسطينية تظهر في عدة صور رمزية، يمكن لدلالتها (الصور) أن تكون مباشرة ومادية، أو أن تفتح مساحة تأويل وقراءة أكبر، فالصورة مقاومة إذ تتحول لخطاب إثبات وجود، الحجارة مثلاً، وصورة محمد الدرة، ومفاتيح البيوت القديمة.
كان البطيخ أيضاً من رموز الاحتجاج الفلسطيني، وقد غابت هذه الرمزية عن الإعلام العربي، ولم تصل إلى الوعي الجماهيري، حيث نشأت رمزية البطيخ في الانتفاضة الأولى، حين كان الاحتلال يجرّم رفع علم فلسطين، لكن المتظاهرين رفعوا البطيخ الذي يحمل ألوان العلم الفلسطيني، ما جعل الاحتلال يتهجم على التجار الذين يعرضون البطيخ، وهو مقسوم، سبق وأن كتبت “نيويورك تايمز” عن اعتقالات لشبان، بسبب رفعهم قطعاً من البطيخ.
وكانت حساسية المحتل تجاه العلم وألوانه سابقة لاستخدام المتظاهرين له، لأن العلم وألوانه، كما يرى رشيد الخالدي، أحد أهم التعبيرات عن الهوية الفلسطينية، حيث يروي التشكيلي الفلسطيني، سليمان منصور، أن رقابة المحتل من بداية الثمانينات، أي قبل الإنتفاضة الأولى، كانت تمنع الرسم بألوان العلم، حتى ولو كان الرسم لبطيخة.
منع رفع العلم ومنع رسم البطيخ هو امتداد لسرقة فلسطين من الأرض إلى التاريخ الشعبي، فليلى الحداد مؤلفة كتاب رحلة الطبخ الفلسطيني جاءتها فكرة توثيق الطبخ الفلسطيني، حين اكتشفت أن مجلةً أميركية تضع طبق البطيخ والجبنة ضمن الأكلات الشعبية في إسرائيل، فالبطيخ، إذن، صار معركة في حد ذاته، كأكلة شعبية تسوق للخارج على أنها للمحتل.
ثمة مشترك بين الحجارة التي استخدمها الأطفال في المقاومة والبطيخ الذي رفعه المتظاهرون، إنها تراجيدية العجز وعدم الإستسلام. خطاب الفعل، حيث يصبح المجاز مساحة للتهكم. البطيخ من هذه الأرض، نحن نزرعه، وهو يحمل ألوان علمنا، إنه دليل دامغ على أن الأرض لنا.
يرى عبد الوهاب المسيري، في عملية رفع البطيخ، شيئاً أعمق من دلالة العلم: “ولعل عملية قطع البطيخة في حد ذاتها، تذكّر المستعمر الإسرائيلي بأشياء كريهة أخرى، يقال لها إرهابية، أي أن قطع البطيخة أكثر عمقاً ورمزيةً من مجرد رفع العلم!”. هنا، يمكن النظر للمقاومة على أنها فعل بقاء مبدع، يحاول دائماً إيجاد حلول أخرى، ليس لديه سلاح فيلجأ للحجر، ليس لديه علم فيلجأ لما يحمل ألوان العلم، فاكهة تتحول إلى رمزية مقاومة.
ثمّة موقف آخر حدث لليلى الحداد في هارفارد إذ لم يسمح لها، ولزملائها الفلسطينيين، برفع العلم في حفلة التخرج، مثل باقي الطلاب، لكنهم ربطوا دبابيس تحمل ألوان العلم الفلسطيني على قبعاتهم في محاولة للمقاومة.
يقول أرسليس جيرمي، في قصيدة له بعنوان قصيدة للبطيخ:

وفي فلسطين..
حيث التلويح جريمة..
علم فلسطين في فلسطين..
بطيخ مقسوم نصفين..
مرفوع في وجه المحتل..
الأحمر والأسود والأبيض والأخضر..
لفلسطين إلى الأبد..

ولم يقتصر الموضوع على الداخل فقط، ففي نوفمبر/ تشرين ثاني 2008، تعرض طلاب فلسطينيون للإهانة العنصرية، بسبب رفعهم علم فلسطين في بهو كلية ايشلمان في كارولينا الشمالية، حيث قال الناشط ماثيو تايلور، عن الحدث: “كان مثالاً آخر على الصهيونية اليمينية، ومحاولة طمس أي رمز لوجود الشعب الفلسطيني”.
وفي مايو/ أيار العام الماضي، فرض اتحاد البث الأوروبي حظراً على رفع علم فلسطين في مسابقة الأغنية الأوروبية “يوروفيجن”، على الرغم من أن العلم الفلسطيني رفع في الأمم المتحدة في 2015. لكن، يبدو أن معاناة العلم تصبح فعلاً رمزية أخرى لمعاناة شعب حتى خارج الأرض المحتلة.

نشر في العربي الجديد

30 مايو 2016

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s