في مسلسل “أفراح القبة”، عن رواية نجيب محفوظ، أحد أهم الأعمال الدرامية في هذا الموسم، يكتب عباس كرم الذي ترعرع وسط مسرح الهلالي، واحتك بكواليسه، مسرحيته من شخصيات حقيقية، يعرّيها، مستحضراً التفاصيل الواقعية كما حدثت، فصار والداه يجلسان بين الجمهور، وهما يشاهدان بيتهم وحياتهم تمثل، تصاب أمه بالخيبة، بعد أن كانت مبتهجة بسبب أن عملاً من كتابة ابنها سيمثل.
جعل نجيب من كتابة المسرحية فعل تعرية للواقع القريب، وجعله أيضاً لعنةً على والدي عباس، فالكتابة هنا صارت لعنة فعلاً، فما هو منسي في تاريخ العوائل، وما طوي خلف البيوت يخرج إلى العلن بسبب الابن الكاتب.
حدث هذا مع بول أوستر في كتابه “اختراع العزلة”، حين خرج وتحدث عن والده وأسرار العائلة، بشكل جعل العائلة تتبرأ من الكتاب، وتعتبره فضيحة، لكن أحمد العلي لم يلتفت لهذا التكذيب، وعلل ترجمته الكتاب، بالقول: “ما همني هو الشجاعة، شجاعة الفضح النبيل، العائلة هي صورتك”.
كتبت مارغريت دوراس، في رواية “عشيق الصين الشمالية” طفولتها، وتحدّثت عن عشيقها الصيني الذي يكبرها كثيراً، وعن ثيمة الخوف التي لازمتها دائماً بسبب شقيقها، وتحدثت أيضاً عن الهستيريا التي تصيب أمها. يمكن فهم مارغريت، وهذه الروح في كتابتها من خلال إحساسها بأن الطفولة تبقى دائماً، حيث تقول مارغريت: “لا أختلق شيئاً، فأنا عاجزة عن الاختلاق”.
على الصعيد العربي، بدأ طالب الرفاعي كتابة الرواية، موثقاً أجزاء من سيرته الذاتية، حاضراً باسمه داخل الشخصيات، بدءاً من “ظل الشمس” إلى “في الهنا”، متخذاً رواية السيرة الذاتية أداة لفهم المجتمع، إذ يقول: “أحضر بسيرتي الذاتية الحقيقية وقناعاتي، ومعها يحضر كل ما يحيط بي”، لكنه صرّح أيضاً إنه يحاذر الوقوع في فخ الفضائحية، “بقيت محاذراً وحذراً من التعريج على خصوصيات تفاصيل تمسّ أفراد أسرتي وبعض أصدقائي”.
كتب مهنا طيب، أيضاً، في روايته “الكمكم”، انعكاس حياته الشخصية، حيث تربى في كنف أمه وسط ابتعاد أبيه، فكتب لبطله في الرواية طفولةً من دون أب، ليس يتماً بل ابتعاداً وغياباً، كما هو في الواقع، ويقول مهنا إن مشروع الكتابة لديه شكل من البحث عن معنى الأبوة الذي افتقده .
يظهر أن سؤال الكتابة عن العائلة أو التجربة الشخصية يظل بعداً حاضراً في مخيال الكتابة الروائية والإبداعية، باعتباره انطلاقاً من الحقيقي والمجرّب، لكنه أيضاً محاط دائماً، ومهما اختلف المجتمع والناس بهالةٍ من الرقابة الذاتية قبل الرقابة المجتمعية. ربما يبدو كخوف من كسر الخصوصية التي تحيط بنا، لكنه أيضاً سلاح لإظهار بشاعة ما هو موجود وحاصل، وفهم تعقيدات الإنسان من خلال التجربة، وليس بما هو متخيّل، يظهر كإجابة مستبقة لسؤال: الواقع ليس هذا، من أين جئت بكل هذا التزوير؟
نشر في العربي الجديد