المقالات

واحة الغروب.. أوهان الهزيمة والخيبة

تبدو رواية بهاء طاهر وكأنها صوت يحاول تعريف معنى أن تحيى في زمن هزيمة الحلم الذي آمنت به.. وانقباض يدك عن الحرية التي كدت تقبض عليها، معايشة الخيبة والهزيمة، والخيانة،  ولا شيء أسوا من كل هذا سوى الصمت وعدم مقدرتك على التنفس ليصبح الصمت اختناقا، لتصبح عليلا يحتاج إلى هواء نظيف، لن ينفع السفر أو الرحيل أو الهروب أو النسيان لأن الاختناق داخلك ولأن الأكسسجين في مثل هذه الحالة ماعاد هواء فقط، بل صار الواقع المر الذي تحيى فيه.
قد تكون مداولة الأيام، لكن محمود في الرواية يكتشف أن الأيام لا تخون والصحراء لا تخون بقدر خيانة البشر، بقدر ما يبيعون ويشترون في تضحيات الأوفياء، فالحِكم الواهنة قد تنطلي على البعيدين لكنها ليس صحيحة في حالة محمود الذي يعلم كيف هزمت ثورة عرابي وكيف سقطت..

“جنب بيتي بالضبط، في الميدان الذي شهد المجد والفرح وعرابي فوق حصانه شاهرا سيفه يعنف الخديوي الذي طالما أذلهم – لقد خلقنا الله أحرارا ولم يخلقنا تراثا وعقارا، ووالله الذي لا إله إلا هو إننا لن نورث ولن نستعبد بعد اليوم – والناس يتجمعون وافدين من الشوارع والحواري يتعانقون على غير معرفة وفي عيونهم دموع الفرح، يوم عيد في المحروسة، وفي المكان نفسه، بعد سنة لا غير، رأيت العربات المذهبة تجرها خيول مطهمة تتهادى واحدة بعد أخرى إلى الميدان الفسيح، تقل كبار رجال البلد، الباشوات والبكوات، نواب البرلمان الذين كانوا يلقون الخطب الملتهبة ضد الإنجليز أيام الهوجة، رأيتهم هم أنفسهم يترجلون بجلال من عرباتهم بثيابهم المطرزة ونياشينهم المذهبة لينضموا إلى الخديوي في منصته وهو يستعرض جيش الاحتلال .. ويومها بكيت بلدي ونفسي”

2016-636089632747564346-756

ففي مصر عرابي التي حاولت أن تتحرر من عبودية الإنجليز والملك والأمم التي ظلت تمر على مصر تستعبدها، هُزم عرابي ليس بسبب قوة الآخرين بل بسبب الخيانة، بسبب من باع كما شاهد محمود.
” لماذا يرحل عبيد في عنفوانه مثل طير يمرق في السماء بسرعة ويعيش خنفس دهرا كأنه لن يموت أبدا؟ لماذا خان؟ لماذا نخون؟ ويقول الدليل إن الصحراء تغدر لمجرد عاصفة أتت في غير أوانها! تعال أحدثك أنا كيف يكون الغدر!”
يستمر محمود في طرح أسئلة ليس الغرض منها البحث عن إجابة، بل الاستنكار، في المسلسل أتقن خالد النبوي تجسيد شخصية رجل مهزوم لم يسلم بعد، ما زال يحلم وحلم محمود لم يعد متعلقا بما سيحدث في المستقبل بل بما حدث سابقا!
ماذا لو لم يهزم عرابي؟
ولماذا انتصر الخونة؟ ربما لأنهم أذكى وأخبث؟
ماذا لو كنا نحن بذات الخبث؟ بالتأكيد سنكون قد مارسنا الخيانة أيضا..

 

مأساة أن تعيش في زمن الهزائم ليست في الهزيمة ذاتها بل في رؤية تطبع الناس على تقبل الهزيمة كان محمود يجابه شتم الناس وهو يقول في نفسه كيف أخبرهم أني أنا بالذات لم أخن.
“كأن كل حماسه للثورة أيام الاسكندرية كان مجرد نزوة، وحماسي أنا أيضا وحماس البلد كله  مرّ كنزوة طيش عابرة أفقنا من رعونتها بالهزيمة”
زمن الهزيمة يدمي محمود بين محاسبة نفسه فهل هو صادق أم كاذب، ولماذا لم يمت مثلما مات الآخرون ولماذا لم يقل في المحاكمة العسكرية إنه كان مع عرابي؟ فهل كان جبنا إنكاره أم كان ذكاء؟
تصيبه الأسئلة بحزن غير عادي، فلا هو بالسعيد، أو لا هو بالمتصالح مع ما حدث “وتسألني كاثرين ماهي أزمتي؟!”
” المشكلة هي أنت بالضبط! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير. نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان. نصف مؤمن ونصف عاشق. دائمًا في منتصف شيء ما”
كما هزم محمود في الثورة هربت حبيبته “نعمة” وتركته موبوءا بجراح الثورة وجراح الحب الدامي والشوق القاتل ليطل تأنيب جديد عن نعمة وهل هو الذي تسبب في هروبها؟ لقد كان صوت محمود في الرواية وهو يحكي أجمل من أي شكل روائي آخر فلا شئ سيكون أصدق من صوت محمود وهو يحكي هزيمته..هذا الحزن الذي يسرق الابتسامة ويسرق الحياة ويسرق كل شئ جعل محمود في النهاية ينتحر مرتاحا على الأقل من أسئلة الخيانة وأوهان الهزيمة.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s