البناءون الذين كانوا يرددون أغانيهم وهم يخطون هذه المباني قبل سنين طويلة مازالت أصواتهم كموسيقى تمتد بين السماوات.. ومازال الآذان يقترب من آذاننا بصوت المؤذن الحقيقي دون أن يستخدم مكبرات الصوت .. حين ينادي : الصلاة خير من النوم .. كانت يد الله توقظنا برفق.. تلك الأزقة الضيقة والمباني القريبة من بعضها , ربما يمكن لعاشقين أن يتبادلا قبلة من نافذتين متقابلتين , أو ربما يمكن لسيدتين أن تغزل كل منها في بيتها وهما يتبادلان (هرجة) ما , في رمضان كانت الأمهات يتبادلن الأطباق من النوافذ حتى لم أعرف ما الذي طبخته أمي ! في النوافذ بدأت قصص الحب لكنها لم تنتهي إلا نهايات سعيدة , تجسسنا تحت نوافذ العرسان واستمعنا لآهات الخطوة الأولى .
في الأزقة كنا وإلى الأزقة عدنا .. تبدو الأزقة دافئة كالرحم .. تبدو كتلك الرسائل الني كتبناها إلى عشيقات لم يقرأنها .. حَصّناها كي لا يدخلها الغرباء وكل من جاءنا رافعاً يمينه صار منّا .. نظفناها لأنها ستصبح ذات يوم شعابا للروح .. حفرنا الأخاديد ونحن نلعب بتلك الحبيبات السحرية ..بنينا المركاز وعَبّدناه بأيدينا من زارنا فرشنا له أيادينا .. لعبنا المزمار على أفراحنا التي كانت تتسع بحجم العالم الذي لم نعرفه .. وبكينا معا لأن حزنك ليس حزنك فقط .. حين يحتضن العشاق بعضهم في الأزقة لا يتوقف الزمن بل يعبر نفسه , ينتقل ويتجاوز كل تلك السنون .. حتى الزمن في الأزقة يصبح برائحة البخور.. تلك الدهاليس المتشعبة كخطوط اليد حفظناها رغم أن الGPS لم يستطع حفظها إلى الآن .. حتى في الظلمة كنا نعرف الطرق.. نتحسس الجدران فنقرأ التيه.. ولأن الأزقة تبدو كأول الحلم كان العالم صغيراً جداً .. كنا نطمح أن نصبح لاعبي كرة , نلبس ألوان الحارة ثم تبدو مبارياتنا كمعركة .. الخسارة عار والفوز فرح ينسيك كل الخيبات الآتية .. رفعنا كأسا من الطين ودرنا بهي الأزقة ثم تقاسمناه كلاً منا أخذ حفنة ..
إلى ضيق الأزقة هربنا كما نهرب إلى أنفسنا , من النساء الذين لا يعشقن من يبكي بين نهودهن , ومن الناس الذين حسبوا أن البقاء للأرذل وأن الحياة مجرد غابة .. لم نكن في الزقاق مدينة فاضلة .. كنا عالماً مسالماً يحاول أن يقاتل بشرف كي يبقى .. ولو لم نكن أحفاد الخطيئة لكنا مدينة الفلاسفة
. اختفت أزقة كثيرة لأنه هؤلاء المهندسين لم يكونوا يوماً هنا .. هل جربت ولعبت الكرة مع 20 غيرك في زقاق لا يتسع إلا لشخصين .. هؤلاء الذين لم يسبق لهم أن يشتموا رائحة بخور أفريقي ولبان حضرمي وعود من بلاد الشرق في وزقاق واحد.. أن تدخل بيت من تشاء في الوقت الذي تشاء .. كان الزقاق كعائلة واحدة .. هؤلاء لن يفهموا العروي حين قال : (( .. المدينة أي مدينة بالمعنى الكامل كائن حي يحس ويتنفس ويتذكر لا مجرد ركام قابل للهدم والفتق, ممراتها شرايين ومبانيها معالم )) ..